بتعليمات من صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله وتحت رعايته السامية تحتفل المملكة المغربية باليوم العالمي للإحصاء تحت شعار "بيانات أفضل من أجل حياة أفضل"، وذلك في إطار دعوة المنتظم الدولي للاحتفال بهذا اليوم في 20 أكتوبر من كل خمس سنوات، أولها، كانت، كما تذكرون، سنة 2010.
وإنه لشرف عظيم للمندوبية السامية للتخطيط أن تضطلع بتنظيم هذا الملتقى الدولي ذا المحتوى العلمي موازاة مع تظاهرات عمومية بجهات المملكة مستنيرين بالمبادئ الكونية للإحصاء الرسمي وما تتضمنه من قيم الموضوعية العلمية والاستقلالية الفكرية والأخلاقية وصدق الانفتاح والتواصل مع المحيط الوطني والدولي على السواء.
وإذا كانت هيئة الأمم المتحدة توفر باليوم العالمي للإحصاء مناسبة لاستحضار ما قام به كل نظام إحصائي على صعيد مختلف الدول، فرفقا بكم أيها السيدات والسادة، لن أتطرق للخطوات المتميزة التي تحققت في بلادنا في هذا الميدان، علما بأننا وضعنا بين أيديكم وثيقة مفصلة يمكن للمهتمين الرجوع إليها للإحاطة الشاملة بهذه الخطوات، وأن أياما مفتوحة للإحصاء يتم تنظيمها في كل جهات المملكة تقدم فيها جميع الأدوات والمواد المستعملة في المخبر الإحصائي لصياغة الأرقام والمؤشرات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط وذلك سعيا وراء إطلاع الرأي العام على حيثيات دلالاتها والمساهمة في نشر ثقافة التعامل المنتج مع مضامينها.
على أنني لن أحرم المندوبية السامية من فرصة أتيحت لها في هذا اليوم لإبراز ما تميز به أداؤها من تفوق إذا ما تم تقييمه بمعيار مستوى ما تم إنجازه من بحوث ودراسات ذات بعد بنيوي سبق، قبل خمس سنوات، أن طوقها بمسؤولية إنجازها صاحب الجلالة في خطابه السامي في نفس المناسبة سنة 2010.
وبرأيي فإن من حقها أن تعتز بذلك دون احتشام مزيف. فعلاوة على بحوثها الاعتيادية، سواء منها السنوية أو الفصلية أو الشهرية، وكذا جملة من الدراسات الموضوعاتية ذات المحتوى المجتمعي المتميز، فإنها استطاعت أن تستجيب لجميع التعليمات السامية لصاحب الجلالة وتربح الرهان فيما يخص إنجاز ما ورد فيها وبالذات الإحصاء العام للسكان والسكنى والبحث الوطني حول الاستهلاك ونفقات الأسر والبحث الوطني حول البنيات الاقتصادية لدى المقاولات والبحث الوطني حول القطاع غير المنظم.
ولا تزال المندوبية السامية للتخطيط دائمة الاستعداد مع حرصها على فضيلة استقلاليتها للمساهمة في كل ما من شأنه أن يغني النظام الوطني للإحصاء في شموليته، وأن يرفع من أدائه. وهكذا فإنها ساهمت في مشاريع القوانين الواردة في خطاب صاحب الجلالة لسنة 2010، من خلال صياغتها نصوص المشاريع القوانين الخاصة بالإحصاء والمجلس الوطني للإحصاء، اعتمادا على مقارنة دولية مستمدة من المعايير المستنبطة من المبادئ الأساسية للإحصاءات الرسمية كما تعارف عليها المجتمع الدولي. تلك النصوص التي لا تزال في طور المصادقة لدى الحكومة.
وفي نفس الاتجاه فإننا إذ ننوه بما يتخذه السيد وزير الفلاحة والصيد البحري من ترتيبات لإطلاق عملية الإحصاء الفلاحي نؤكد استعدادنا للمساهمة في إنجازه بكل ما أوتيت المندوبية السامية للتخطيط من كفاءة وخبرة سواء منها الإحصائية الصرفة أو الاقتصادية، آملين أن تسارع جميع الأطراف المعنية إلى ملاءمة منتوجها الإحصائي مع المعايير الدولية من حيث المفاهيم والمناهج وتوقيت الإصدار، كما دعا له صاحب الجلالة نصره الله في خطابه السامي المشار إليه.
وعلى كل حال فكلنا اليوم مطالبون بمزيد من الانفتاح على المعايير الدولية في كل الميادين في مغرب يتسم فيه المشهد المؤسساتي والنموذج التنموي، ولحقبة طويلة، بطابع تحدده ثورة دستورية كان محتوى الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 الوثيقة المؤسسة لها، كرس الدستور جميع المكتسبات المجتمعية التي تحققت منذ العشرية الماضية وفتح جيل جديد من هذه المكتسبات في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية تتعزز بها آليات تخليق الحياة العامة. مما أصبح معه المجتمع المدني وما يزخر به من طاقات متوفرا ليس فحسب على إمكانيات الانخراط والمشاركة في تحديد ومتابعة وتقييم السياسات العمومية، بل مطوقا بواجب دستوري يقتضي منه القيام بها.
ومن هذه الزاوية يتضح البعد الاستراتيجي الذي تمثله الجهوية المتقدمة التي أقرها الدستور في تمثين دعائم النموذج التنموي المغربي بما أعطى لأجهزة تدبيرها من مشروعية التمثيلية واتساع الاختصاصات، مع تعزيز لدور أجهزتها التنفيذية وآليات للتعاون ما بينها والشراكة مع مؤسسات محيطها ومدها بالموارد المالية.
وإذا كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قد ساهمت في تحقيق أهداف الألفية من أجل التنمية، فإن من شأن المشهد المؤسساتي ودينامية تطور النموذج التنموي للمغرب أن يزداد تميزا فيما نحن مقبولون عليه من تحولات مع ما تقتضيه التعليمات الملكية السامية بخصوص شمولية نمط تدبير هذه المبادرة الوطنية الكبرى في السياسات العمومية في الميدان الاجتماعي اعتمدتها الحكومة وأدرجتها في برامجها المتعددة السنوات.
وفي خضم استيعابه للمقتضيات الإنتاجية والمجتمعية لهذه التحولات سواء الدستورية منها أو الجهوية أو المنهجيات التدبيرية، فسيكون على المغرب العمل على إنجاز متطلبات أهداف التنمية المستدامة التي تبناها مع المجتمع الدولي.
كل ذلك يفرض توفرا كميا وكيفيا للعديد من المعطيات الإحصائية حول البنيات الاقتصادية والمجتمعية، وحول ظروف معيشة السكان وتطورها تكون مؤسسة على معايير ومرجعيات علمية ذات مقروئية وطنية ودولية، قابلة لبناء سياسات عمومية مسؤولة وتقييمات مؤسساتية وشعبية موضوعية.
وفي هذا الإطار، فإن المندوبية السامية للتخطيط عازمة على أن تكون في الموعد من أجل المساهمة في إعداد مثل هذه المعطيات، وعلى صعيد كل جهة وولاية وعمالة ومركز حضري وجماعة قروية بل وعلى صعيد كل دوار في القرى وحي في المدن. فبما نتوفر عليه من نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014 والبحوث الأخرى حول ظروف معيشة المواطنين سواء المادية منها أو الاجتماعية أو ما يبدونه من تعبير عن مكتسباتهم ومعاناتهم وطموحاتهم، وبما نتوفر عليه من دراسات اقتصادية وطنية وجهوية عامة أو موضوعاتية، سنكون مؤهلين للاستجابة لجميع المتطلبات المعلوماتية التي تفيد مختلف الفاعلين، على الصعيد الوطني كما على الصعيد الجهوي والمحلي في مختلف ميادين ظروف المعيشة والصحة والتعليم والبطالة والفقر والهشاشة والفوارق الاجتماعية والمجالية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أننا قد قمنا باكتمال منهجية تمكن من رصد المصادر المتعددة الأبعاد التي تغذي الفوارق والهشاشة، تتيح استهداف السياسات العمومية وتقييم الأداء في ميدان التنمية البشرية. إذ تمكن إحصائيا من تقدير وزن كل بعد من أبعاد العوامل التي تساهم في خلق أو استفحال مظاهر الفقر أو الهشاشة والفوارق الاجتماعية أو المجالية، سواء ما يتصل منها بالرأسمال المادي أو الرأسمال البشري أو الرأسمال الاجتماعي واللامادي.
وإن مثل هذه المقاربة، بتفصيلها لهذه العوامل حسب وقعها على مستوى كل وحدة ترابية، مهما كان دنو مستواها المجالي والسكني، لمن شأنها، إذا ما تم الأخذ بنتائجها في تدبير الشؤون الجهوية والمحلية للمواطنين، أن تساهم في الرفع من مردودية الموارد المرصودة للتنمية على جميع هذه الأصعدة وعلى الصعيد الوطني.
وفي هذا الإطار، فإن المسؤوليات الجديدة التي تناط اليوم بالمندوبية السامية للتخطيط بحكم التطورات المؤسساتية لبلادنا وبالذات في إطار الجهوية المتقدمة، فإننا نولي أهمية كبيرة لإعادة النظر في بنية مصالح مؤسستنا على مستوى الجهات. وشرعنا في جعل تمثيلياتها الجهوية تتطابق مع التقطيعات الإدارية الجديدة، علما أنها في حاجة إلى إعادة النظر في هياكلها والمستويات الإدارية للمسؤولين عليها حتى تكون من حيث بنياتها ومستوى تأطيرها في مستوى ما يتطلبه دورها في الجهات باختصاصاتها الدستورية الجديدة. وهذا يطرح من جديد القضية الجوهرية التي تشكل الوضعية القانونية والمؤسساتية والبشرية للمندوبية السامية للتخطيط ككل والتي أصبحت بكيفية ملحة تطرح نفسها بصيغة قد تكون حيوية بالنسبة لاستمرارية إحصاء وحسابات وطنية بمستوى مقبول دوليا.
على أننا أمام التغييرات الكبرى التي يعرفها مجال إنتاج المعلومة والطفرات التكنولوجية التي خلخلت كما تعلمون النماذج والطرق التقليدية في تجميع وتحليل ونشر المعطيات لعلى أتم الوعي بضرورة التأقلم مع ما أسفرت عنه البيانات الضخمة (Big data)، والذكاء الاصطناعي والشبكة العنكبوتية وغيرها، من تحديات جديدة سيكون على نظامنا الوطني للمعلومات الإحصائية في المستقبل التجاوب معها إيجابيا وذلك من خلال وضع التطبيقات الضرورية لتدبير واستغلال الكميات الكبيرة من البيانات التي نحن مقبلون على إنتاجها وتحليلها وذلك في وقت وجيز. ومن أجل ذلك، فإننا عازمون على إنجاز دراسة عميقة لقاعدة البيانات الضخمة في أفق سنة 2020 من أهدافها تحديد التحديات وتذليل العقبات الرئيسية التي تكمن في عدم وجود تقارب، على المستوى الوطني، بين التعاريف والبيانات. ومن المتوقع أن تعطي هذه الدراسة الأفضلية لسيناريو الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتحديد محيطها المؤسساتي والتنظيمي والعملي.
كلمة السيد أحمد الحليمي علمي المندوب السامي للتخطيط في الندوة العلمية الدولية بمناسبة اليوم العالمي للإحصاء
Mis en ligne le Mercredi 21 Octobre 2015 à 08:50